فصل: تفسير الآيات (60- 63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {يَتَحَآجُّونَ فِي النار} أصله يتفاعلون في الحجة أي يختصمون، ويحتج بعضهم على بعض، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 64] وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سبأ: 3133]. وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 3839] وقوله تعالى، {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا} [البقرة:166- 167] وقوله تعالى: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 2122] والآيات بمثل هذا كثيرة، وقد قدمنا الكلام عليها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.
{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)} ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن أهل النار طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم الله أن يخفف عنهم من شدة عذاب النار.
وقد بين في سورة الزخرف أنهم نادوا مالكًا خاصة، من خزنة أهل النار، ليقضي الله عليهم، أي ليميتهم فيستريحوا بالموت من عذاب النار.
وقد أوضح جل وعلا في آيات من كتابه، أنهم لا يجابون في واحد من الأمرين.
فلا يخفف عنهم العذاب، الذي سألوا تخفيفه، في سورة المؤمن هذه.
ولا يحصل لهم الموت الذي سألوه في سورة الزخرف، فقال تعالى في عدم تخفيف العذاب عنهم في هذه الآية.
{قالوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات قَالُواْ بلى قَالُواْ فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر: 50] وقال تعالى: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] وقال تعالى: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30]: وقال تعالى: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75]: وقال تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] وقال تعالى: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162]. وقال تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 68].
وقال تعالى في عدم موتهم في النار: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} [فاطر: 36]. وقال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17]. وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56]. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74]. وقال تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الذي يَصْلَى النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الأعلى: 1113] ولما قالوا {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أجابهم بقوله: {قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
قوله تعالى: {قالوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}.
قد قدمنا الكلام عليه مع الآيات التي بمعناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] الآية، وذكرنا طرفًا من ذلك في الصافات، في الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171172] وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله في سورة المجادلة.
اللام في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى} موطئة للقسم وصيغة الجمع في آتينا وأورثنا للتعظيم.
والمراد بالهدى ما تضمنه التوراة من الهدى في العقائد والأعمال: وأورثنا بني إسرائيل الكتاب وهو التوراة، وقوله: هدى وذكرى لأولي الألباب مفعول من أجله أي لأجل الهدى والتذكير.
وقال بعضهم: هدى حال، وورود المصدر المنكر حالًا معروف، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
ومصدر منكر حالًا يقع ** بكثرة كبغتة زيد طلع

وقال القرطبي: هدى بدل من الكتاب، أو خبر مبتدأ محذوف، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الله أنزل التوراة على موسى وأنزل فيها الهدى لبني إسرائيل جاء موضحًا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 2]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23] الآية. وقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار} [المائدة: 44] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43] وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} قوله تعالى: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ}.
قد قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13]، وذكرنا هناك بعض النتائج السيئة الناشئة عن الكبر.
قوله تعالى: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس}.
قد قدمنا أن هذه الآية من البراهين الدالة على البعث، وأوضحنا كل البراهين الدالة على البعث بالآيات القرآنية بكثرة في سورة البقرةن وسورة النحلن وأحلنا على مواضع ذلك مرارًا.
قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء} الآية.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وما يستوي الأعمى والبصير} قد قدمنا الكلام عليه في سورة هود، في الكلام على قوله تعالى: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} [هود: 24] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء} قد قدمنا إيضاح معناه بالآيات القرآنية، في سورة ص في الكلام على قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28].
{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)} قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيرًا} [الفرقان: 11]. اهـ.

.تفسير الآيات (60- 63):

قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له، والمسيء النار خذلانًا وإهانة له، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقال لعباده كلهم: آمنوا لأسلمكم من غوائل تلك الدار، عطف عليه قوله: {وقال ربكم} أي المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة: {ادعوني} أي استجيبوا لي بأن تعبدوني وحدي فتسألوني ما وعدتكم به من النصرة على وجه العبادة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» فقد حصر الدعاء في العبادة سواء كانت بدعاء أو صلاة أو غيرهما، فمن كان عابدًا خاضعًا لله تعالى بسؤال أو غيره كانت عبادته دعاء، عن ابن عباس- رضى الله عنهما: وحدوني اغفر لكم.
وعن الثوري أنه قيل له: ادع، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء: {أستجب} أي أوجد الإجابة إيجادًا عظيمًا كأنه ممن يطلب ذلك بغاية الرغبة فيه {لكم} في الدنيا أي بإيجاد ما دعوتم به، أو كشف مثله من الضر، أو إدخاره في الآخرة، ليظهر الفرق بين من له الدعوة ومن ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تتكلوا على ما سبق به الوعد فتتركوا الدعاء فتتركوا العبادة التي الدعاء مخها، فكل ميسر لما خلق له، قال القشيري، وقيل: الدعاء مفتاح الإجابة، وأسنانه لقمة الحلال- انتهى- والآية بمعنى آية البقرة {أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} [آية: 186].
ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر، فكان كأنه قيل: ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين، علله ترهيبًا في طيه ترغيب بقوله: {إن الذين يستكبرون} أي يوجدون الكبر، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله: {عن عبادتي} أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء {سيدخلون} بوعد لا خلف فيه {جهنم} فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة {داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين، فالآية من الاحتباك: ذكر الدعاء أولًا دليلًا على حذفه ثانيًا، والعبادة ثانيًا دليلًا على حذفها أولًا.
ولما ختم ذلك أيضًا بأمر الساعة، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب، في دار ثواب وعقاب، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب، فقال معللًا مفتتحًا بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عليه مع الإبلاغ في الإحسان إليهم {الله} أي المحيط بصفات الكمال {الذي جعل لكم} لا غيره {الّيل} أي مظلمًا {لتسكنوا فيه} راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة {والنهار مبصرًا} لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى، فالآية من الاحتباك: حذف الظلام أولًا لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل: للراحة لمن أرادها، والعبادة لمن اعتمدها واستزادها.
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار، قال مستأنفًا أو معللًا مؤكدًا: {إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {لذو الفضل} أي عظيم جدًّا باختياره {على الناس} أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع.
ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حدًا قل أن يوجد في غيرها، فكان المخالف مذمومًا لذلك غاية الذم، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعًا في أوفق محاله، وكان الاسم قد يراد بعض مدلومه، وكان المراد هنا التعميم، أظهر للإفهام إرادة ذلك، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال: {ولكن أكثر الناس} أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب {لا يشكرون} فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلًا، أو يعملون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولًا كل من يتأتى منه النوس، وهو كل من برز من الوجود، وبهم ثانيًا الجن والإنس- والله أعلم.
ولما ثبت بآية الخافقين وآية الملوين ثبوتًا لا شك فيه أصلًا شمول القدرة بالاختيار، قال معظمًا بأداة البعد وميم الجمع: {ذلكم} أي أيها المخاطبون!- الواحد القهار العظيم الشأن الذي علم بما ذكر من أفعاله أنه لا يشاركه أحد {الله} أي الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه أحد ولذلك قال: {ربكم} أي المربى لكم والمحسن إليكم بقدرته واختياره المتفرد بربوبيتكم لا رب لكم سواه.
ولما كان في سياق الامتنان بالنعم للدلالة على الساعة التي ينكرونها ويجادلون في أمرها، قدم الخلق على التهليل فقال: {خالق كل شيء} أي بما ثبت من تمام قدرته بإبداع الخافقين ثائبين والملوين متعاقبين دائبين، ولا مانع له من إعادة الثقلين لأنه {لا إله إلا الله} بل كان ذلك واجبًا في الحكمة، لأن المنعم عليهم انقسموا إلى شاكر وكافر، فوجب في الحكمة إقامة الساعة للفصل بينهم، وجاء ذلك على ترتيب مطلع السورة، فإن العزيز ناظر إلى كمال القدرة على الإيجاد والإعدام، والعليم هو المتوحد بكمال الذات، فإن إحاطة العلم تستلزم كل كمال، والقدرة قد لا تستلزم العلم كما للحيوانات العجم، وهذا بخلاف ما مضى في آية الأنعام، فإن السياق هناك لإنكار الشرك وإثبات الوحدانية بما دل عليها من عموم الخلق طبق ما مضى أيضًا في مطلعها.
ولما أنتجت هذه الأخبار- التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له- الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال، سبب عنها قوله منكرًا مبكتًا: {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه {تؤفكون} أي تقلبون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة التي الطعن فيها طعن في الإلهية التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه، وذلك مؤدٍ إلى سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد المحسوس، وفي المعقول المركوز في جميع النفوس.
ولما كشف هذا السياق عن أن هذا الصرف أمر لا يقدم عليه عاقل، كان كأنه قيل: هل وقع لأحد غير هؤلاء مثل هذا؟ فأجيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الصرف الغريب البعيد عن مناهيج العقلاء {يؤفك} أي يصرف صرف سيئًا- بناه للمفعول إشارة إلى تمام قدرته عليه بكل سبب كان، ولأنه المتعجب منه {الذين كانوا} مطبوعين على أنهم {بآيات الله} أي ذي الجلال والجمال {يجحدون} أي ينكرون عنادًا ومكابرة، فدل هذا على أن كل من تكبر عن حق فأنكره مع علمه به عوقب بمسخ القلب وعكس الفهم، فصار له الصرف عن وجوه الدلائل إلى أقفائها ديدنًا بحيث يموت كافرًا إن لم يتداركه الله برحمة منه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} اعلم أنه تعالى لما بيّن أن القوم بالقيامة حق وصدق، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} واختلف الناس في المراد بقوله: {ادعونى} فقيل إنه الأمر بالدعاء، وقيل إنه الأمر بالعبادة، بدليل أنه قال بعده {الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق العبادة لما بقي لقوله: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} معنى، وأيضًا الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا} [النساء: 117] وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة، فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن، بأن ترك الظاهرة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل، فإن قيل كيف قال: {ادعونى استجب لَكُمْ} وقد يدعى كثيرًا فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال: الدعاء إنما يصح على شرط، ومن دعا كذلك استجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال: فما هو أصلح يفعله بلا دعاء، فما الفائدة في الدعاءا وأجاب: عنه من وجهين الأول: أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله والثاني: أن هذا أيضًا وارد على الكل، لأنه إن علم أنه يفعله فلابد وأن يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وإن علم أنه لا يفعله فإنه ألبتة لا يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وكل ما يقولونه هاهنا فهو جوابنا، هذا تمام ما ذكره، وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال: {ادعونى استجب لَكُمْ} فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده.